فصل: فَصْل فِي ذِكْرِ نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَذَى وَالشَّدَائِدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ:

مساءً 11 :41
/ﻪـ 
1446
رجب
2
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل فِي ذِكْرِ نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَذَى وَالشَّدَائِدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ:

.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ أبي بكر:

فَأَوْلُ ذَلِكَ فِي تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ أَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الأَطْرَابُلْسِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلاثِينَ رَجُلاً أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهُورِ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ». فَلَمْ يزل أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ كُلُّ رُجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ. وقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَكَانَ أَوْلُ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللهِِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَضُرِبُوا فيِ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَديدًا، وَوُطِأَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بن رَبِيعَة فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ، وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ.
وَجَاءَ بَنُو تَمِيمٍ يَتَعَادُونَ فَأَجْلَتْ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَحَمِلَتْ بَنُو تَمِيمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَلا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَمِيمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلّنَ عُتْبَةَ بن رَبِيعةَ فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةُ وَبَنُوا تَمِيمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ فَتَكَلَّمَ آخِر النَّهَارَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمُ وَعَذَلُوهُ ثُمَّ قَامُوا وَقَالُوا لأُمِّهِ أُمِّ الْخَيِرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا أَوْ تُسْقِيهِ إِيَّاهُ.
فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: إذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ، فَاسْأَلِيهَا فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللهِ.
فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلا مُحَمَّدَ بن عَبْد اللهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ؟ قَالَتْ: نَعَم. فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِقًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّ قَوْمًا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لأَهَلِ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْتَقَمَ اللهُ لَكَ مِنْهُمْ.
قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلا شَيْءَ عَلَيْكِ مَنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ.
قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ أَنْ لا أَذُوقَ طَعَامًا وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا أَوْ آتِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمْهَلَنَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ خَرَجْنَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى ادْخَلنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَهُ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَقَةً شَدِيدَةً.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِنَّ مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَارٌة بِوَلَدِهَا وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَأْدُعُهَا إِلَى اللهِ، وَادْعُ اللهَ لَهَا عَسَى اللهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَاهَا إِلَى اللهِ فَأَسْلَمَتْ وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي الدَّارِ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلاً. وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ بن الْخَطَّابِ أَوْ لأَبِي جَهْلِ بن هُشَامٍ فَأَصْبَحَ عُمَر وَكَانَتْ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلا مَكْةَ.
وَخَرَجَ أَبُو الأَرْقَمِ وَهُو أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِي عبيدِ الأَرْقَمِ فَإِنَّه كَفَرَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلامَ تُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقّ وَيُظْهِرُوا دِينَهَمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: يَا عُمَر: «إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْنَا مَا لَقِينَا».
فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالذِّي بَعَثَكَ بِالْحَّقِ لا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ. ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْش وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فُلانٌ أَنَّكَ صَبَوْتَ؟
فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَة وَبَرَكَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ حَتَّى أَعْجَزَ النَّاس وَاتْبَعَ الْمَجَالِسَ التَّي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الإِيمَانُ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي وَاللهِ مَا بَقَي مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ غَيْرَ هَيَّابٍ وَلا خَائِفٍ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ مُؤَمِّنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَط إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إَلا يَأْتِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيّ النَّهَارَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغَمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدُ رِبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ وَلا يَخْرُجُ؛ إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومِ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْف وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأنَا لكَ جَارٌّ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ فِي بَلَدِكَ.
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُِومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيُقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَلَمْ تَكْذِبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابنِ الدَّغِنَةِ. وَقَالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلِيُصِّلِ فِيهَا وَلْيَقْرَأَ مَا شَاءَ وَلا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ.
فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلا يَسْتَعْلِنُ بِصَلاتِهِ وَلا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَا مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ- أَيْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ- وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافُ قُرِيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهُ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ مِنْ أَنْ يَرَّدَ إِلَيكَ ذِمَّتِكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهَنَا أَنْ نَخْفُرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ.
قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذمَّتِي.
فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبَ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيكَ جَوَارُكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
هَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهُ فَلَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ قَدَّمَهُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ قَالَ فِي النُّونِيَّةِ مَا قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ:
وَيَقُولُ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ يَؤُمُّكُمْ ** عَنِّي أَبُو بَكْرٍ بِلا رَوَغَانِ

وَيَظِلُّ يَمْنَعُ مِنْ إِمَامِةِ غَيْرِهِ ** حَتَّى يُرَى فِي صُورِةِ مَيَلانِ

ويَقُولُ لَوْ كُنْتُ الْخَلِيلَ لِوَاحِدٍ ** فِي النَّاسِ كَانَ هُوَ الْخَلِيلُ الدَّانِ

لَكِنَّهُ الأَخُ وَالرَّفِيقُ وَصَاحِبِي ** وَلَهُ عَلَيْنَا مِنْهُ الإِحْسَانِ

ويَقُولُ لِلصِّديق يَوْم الْغَارِ لا ** تَحْزَنْ فَنَحُنُ ثَلاثَةٌ لا اثْنَانِ

اللهُ ثَالِثُنَا وَتَلْكَ فَضِيلَةٌ ** مَا حَازَهَا إِلا فَتًى عُثْمَان

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتَابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ، الْمُحَلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرِمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَّعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرِينَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، اللَّهُمَّ اعْفُ عَنْ تَقْصِيرِنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَى مَا يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ. وَهَبَ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ، وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدْيتَهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا التَي هِيَ أَقْرَبُ أَعْدَائِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوّكَ وَاعْصِمْنَا مِنْ الْهَوَى وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَمَكِّنْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَاوألهمنا ذِكْرِكَ وَشُكْرَكَ وَفَرِّج قُلُوبِنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجِهَكَ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ عمر بن الخطاب:

فَصْل:
أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَيْ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بن مَعْمَرٍ فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبدُ اللهِ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأنَا غُلامٌ اعْقِلُ كُلَّمَا رَأَيْتُ حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيل أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وهم أَنِدَيتُهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ أَلا إِنَّ ابٍنَ الْخَطَّابَ قَدْ صَبَأَ.
قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذِبَ وَلَكْنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لا إله إلا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُؤوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلَحَ:- أي أَعْيَا- فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاللهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلاثمَائِة رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا.
قَالَ: فَبَيْنَمَا عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَبِرَة وَقَمِيصٌ مَوَشَّى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. قَالَ: فَمَه، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَترَونَ بَنِي عَدِيّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبهُمْ هَكَذَا، خَلُّوا عَنْ الرَّجُلِ.
قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ- أَيْ كُشِفَ عَنْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتِ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقُوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ قَالَ: وَذَاكَ أَيْ بُنَي الْعَاصُ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ. وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيّ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِي، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُثْمَانُ بن عَفَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَذَهُ عَمُّهُ الْحَكَمُ بْن أَبِي الْعَاصِ بن أُمَيَّةَ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا، قَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ آبَائِكَ إِلَى دِينٍ مُحْدَثٍ، وَاللهِ لا أَحُلُّكَ أَبَدًا وَلا أَفَارِقَهُ، فَلَمَّا رَأَى الْحَكَمُ صَلابَتُهُ فِي دِينِهِ تَرَكَهُ.

.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ طَلْحَةِ بن عُبَيْدِ اللهِ:

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ مَسْعُودٍ بن خِرَاشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِذَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ يَتَّبِعُونَ شَابًا مُوثقًا بِيَدِهِ فِي عُنُقِهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنَهُ؟ قَالُوا: هَذَا طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَبَأَ وَامْرَأَةٌ وَرَاءَهُ تُدَمْدِمُ وَتَسُبُّه. قُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: الصِّمَّةُ بِنْت الْحَضْرَميّ أُمُّهُ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكُ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بن مُحَمَّدٍ بن طَلْحَة قَالَ: قَالَ لِي طَلْحَةُ بن عُبَيْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرى فَإَذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِه يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمُوسِم أَفِيهُمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ.
قَالَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَعَم أَنَا. فَقَالَ: هَلَ ظَهَرَ أحمد بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ أحمد؟ قَالَ: ابْن عَبْدِ اللهِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِب هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجِرَه إِلَى نَخْل وحرة وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ.
قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّة فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَم، مُحَمَّد بِن عَبدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَمِين تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: نَعَم فَانْطَلِقْ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعُهُ فَإِنَّه يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ فَأََخْبَرَهُ طَلْحَة بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَمَا قَالَ الرَّاهِبُ فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَة أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بن خُوَيْلَدِ بن الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا في حَبْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَمِيمٍ. وَكَانَ نَوْفَلُ بن خُوَيْلِدٍ يُدْعَى أَسَدُ قُرَيْشٍ، فلِذَلِكَ سَمَّى أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةَ الْقَرِينَيْنِ.... فَذَكَرَ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي حَدِيثُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابن الْعَدَوِيَّةِ».

.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ الزُّبَيْرِ بن الْعَوَّامِ:

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدُ قَالَ: أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْن ثَمَانُ سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرة سنة وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْر فِي حَصِيرٍ وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ. فيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا أَكْفُرُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا عَنْ حَفْصِ بن خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُوصِلِ قَالَ: صَحِبْتُ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَصَابَتْهُ جَنَابَةً بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَقَالَ: اسْتُرْنِي. فَسَتَرْتُهُ فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَة فَرَأَيْتُهُ مُجَدّعًا بِالسِّيوفِ. قُلْتُ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِكَ آَثَارًا مَا رَأَيْتُهَا بِأَحَدٍ قَطٍ؟ قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَم. قَالَ: أََمَا وَاللهِ مَا مَنْهَا جِرَاحَةٌ إِلا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللهِ.
وَعِندَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلِيّ بن زَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الزُّبَيْرَ وَإِنَّ في صَدْرِهِ لأَمْثَالُ الْعُيُونِ مِنْ الطَّعْنِ وَالرَّمْي.

.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ بلال بن رباح:

أَخْرَجَ الإِمَامُ أحمد وَابْنُ مَاجَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعمارُ وَأُمُّهُ سُمَيَّة وَصُهَيْبٌ وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ، وأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ أَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلا بِلال فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَان فَجَعَلوُا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّة وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةَ عَنْ هُشَام بن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بن نَوْفَل يَمُرُّ بِبِلالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، اللهُ يَا بِلالُ ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ بن نَوْفَلِ عَلَى أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ وَهُوَ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلالٍ فيَقُولُ: احْلِفُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذِهِ لاتَّخِذَّنَهُ حَنَانًا.
حَتَى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقِ يَوْمًا وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لأُمَيَّة: أَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذَا الْمِسْكِين حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتُهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ عِنْدِي غُلامٌ أَسْوَدٌ أَجْلَدُ مِنَْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بِهِ. قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ. قَالَ: هُوَ لَكَ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلامَه ذَلِكَ وَأَخَذَ بِلالاً فَأَعْتَقَهُ.
ثُمَّ اعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ قَبْل أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَ رِقَابٍ بِلال سَابِعُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقٍ كَانَ أُمَيَّةُ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسِ فَيَطْرحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّة ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ: لا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبَدَ اللاتَ وَالْعُزَّى.
وَهُوَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْبَلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ عَمَّارُ بْن يَاسِرَ وَهُوَ يُذَكِّرُ بِلالاً وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلاء وَاعْتَاقِ أَبَا بَكْرٍ إِيَّاهُ وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
جَزَى اللهُ خَيْرًا عَنْ بِلالٍ وَصَحْبِهِ ** عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلٍ

عَشِيَّةَ هَمَّا فِي بِلالٍ بِسَوْءَةٍ ** وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ

بِتَوْحِيدِهِ رَبّ الأَنَامِ وَقَوْلُهُ ** وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ

فِإِنْ يَقْتُلُونِي يَقْتُلُونِي فَلَمْ أَكُنْ ** لأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْل

فَيَا رَبّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُس ** وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لا تُبْلِ

لِمَنْ ظَلّ الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ ** عَلَى ضَرِ بر كَانَ مِنْهُ وَلا عَدْل

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاجْعَلْ الإِيمَانَ لَنَا سِرَاجًا وَلا تَجْعَلْهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا وَاجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إِلَى جَنَّتِكَ وَلا تَجْعَلُهُ لَنَا مَكْرًا مِنْ مَشِيئَتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الْحَلِيمُ الْغَفُورُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارِ، وِآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَة حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ عمار بن ياسر:

فَصْلٌ:
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ والْبَيْهَقِيُّ وَابْن عَسَاكِرُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِعَمارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَبُونَ. فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ». قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمُقوم وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو أحمد الْحَاكِم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن جَعُفَرِ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَاسِرٍ وَعَمَّارٍ وَأُمِّ عَمَّارٍ وَهُمْ يُؤْذَوْنَ فِي اللهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ: «صَبْرًا آل يَاسِرٍ صَبْرًا آل يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ». رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَحْوَهُ وَزَادَ: وَعَبْدِ اللهِ بْنِ يَاسِرٍ. وَزَادَ: وَطَعَنَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةِ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ وَمَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ وَرُمِيَ عَبْدُ اللهِ فَسَقَطَ.
وَعِنْدَ أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوْلُ شَهْيدٍ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا. وَعَنْ عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرِ بِالنَّارِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِهِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فيَقُولُ: «يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلامُ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةِ». فَقَتَلَهُ أَحَدُ الْمُقَاتِلِينَ مَعَ مُعَاوِيَةٍ.
وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمُ ** كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ

فَحَرْبَةُ وَحْشِيُّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرّدَى ** وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلَجَّمٍ

وَعِنْد الْحَاكِمِ فِي الْكُنَى وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ إِذْ بِعَمَّارِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ يُعَذَّبُونَ فِي الشَّمْسِ لِيَرْتَدُوا عَنْ الإِسْلامِ. فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُول اللهِ الدَّهْرُ هَكَذَا؟ فَقَالَ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ».
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمُ فِي الْحِلْيَةِ ج (1) ص [140] عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّد بْن عَمَّارٍ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟» قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. مَا تُرِكْتُ حتَّى نِلْتُ مِنْكَ وذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: أَجِدُ قَلْبِي مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ. قَالَ: «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ». وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ.